لطالما تعلّقت تعلقاً شديداً بحضارة أجـدادي ، ورجوت أن أراها تنهض من جديد ، وتزدهر ، وتنتعش ، وتستعيد ألقها ، وعظمتها ، وسخاءها ، وطاقتها الإبداعية ، لكي تبهر مرة أخرى البشرية جمعاء . ولم يخطر ببالي يوماً أنني سأضطر في خريف حياتي إلى وصف مسارها بكلمات مثل شقاء ، وأسى ، وضياع ، وكارثة ، وتقهقر ، وغرق ، وهلاك ...

ولكن كيف أصف بغير ذلك هذا المشهد المتهالك الذي يتجلى أمام أعيننا؟ تلك البلدان التي تتفكك ، تلك المجتمعات الموجودة منذ آلاف السنين التي تُقتلع من جذورها ، وتلك الآثار النبيلة التي تدمر ، وتلك المدن المبقورة ، ثم ذلك الجموح الذي لا يوصف للوحشية – رجم وقطع رؤوس وبتر أعضاء وصلب وإعدام غوغائي – وكل ذلك يُصور ويُبث ، لكي لا يفوّت سائر الكوكب مشهداً واحداً؟

قلما أفضى الحقد على الذات ، في تاريخ الشعوب ، إلى مثل تلك الأعمال المتطرفة . وعوضاً عن الارتقاء بعظمة حضارتهم ، عوضاً عن التأكيد على إسهامها في المغامرة البشرية في ميادين الرياضيات أو العمارة أو الطب أو الفلسفة ، عوضاً عن تذكير أبناء عصرهم بأمجاد قرطبة وغرناطة وفاس والإسكندرية وبغداد ودمشق أو حلب ، يُظهر أحفاد بناة الأمس العظام بأنهم غير جديرين بالإرث المؤتمنين عليه ، لا بل وتشير الدلائل إلى أنهم يسعون عمداً إلى إحراج عشاق حضارتهم ، وإعطاء حجج لمنتقديهم . في الماضي ، كان أولئك الذين يكرهون العرب يُتهمون بمعاداة الأجانب والحنين إلى الحقبة الاستعمارية ؛ وفي أيامنا الراهنة ، يشعر الجميع بأنه يجوز لهم كراهيتهم من دون تأنيب ضمير ، باسم الحداثة أو العلمانية أو حرية التعبير أو حقوق المرأة .
.
أمين معلوف
#غرق_الحضارات